الملصق السياسيّ والقضيّة الفلسطينيّة | أرشيف

«مجلّة العربي» (1988)

 

المصدر: «الحياة التشكيليّة».

زمن النشر: 1 آذار (مارس) 1983.

الكاتب: خليل صفيّة.

 


 

يعتبر الملصق من أكثر الأجناس الفنّيّة فاعليّة وتأثيرًا في الناس، وتكمن أهمّيّته في طبيعة عناصره من حيث البساطة في الأشكال والرموز المستخدمة، والإثارة البصريّة اللونيّة والشكليّة الّتي تدفع أقلّ عدد ممكن من العناصر التشكيليّة والرموز التعبيريّة والألوان، وهذا يعني قدرة هذا الجنس الغنيّ على إيصال محتواه إلى الملتقّي مباشرة، دون وسيط ‘أدبيّ‘، وتحليل العمل واستشفاف محتواه وإيصاله إلى الناس عبر الناقد.

هذه الخصوصيّة الّتي يتمتّع بها الملصق تعني شيئًا هامًّا بالنسبة لنا، وهو أنّ الملصق لا يحتمل التأويل في المعنى، مثل «لوحة جبل المحامل» أو النحت الحجريّ «نحت الحجرة»، أو الحفر بتقنيّاته المتنوّعة، بل يفترض فيه أن يصل بمحتواه إلى الناس بمنتهى البساطة والتلقائيّة والسرعة، ومن هنا تأتي أهمّيّة الملصق الناجح جماهيريًّا، في الوضوح في الشكل والفكر، والبساطة في العناصر والرموز، والقوّة في التعبير. ولا تقف فاعليّة الملصق عند حدود الدور السياسيّ؛ فالملصق، ونعني بالتحديد الملصق السياسي ’التجاريّ‘، يلعب أكثر من دور، فهو أيضًا وسيلة تثقيف جماليّة، ولا يمكن أن تتحقّق هذه الأدوار السياسيّة والاجتماعيّة والجماليّة، بمعزل عن حضور الملصق عبر الطباعة وتعدّد النسخ في الشوارع بين الناس. فإذا كانت أهمّيّة الملصق تكمن في خصوصيّته التعبيريّة، فإنّ فاعليّته تكمن بلا شكّ في انتشاره الواسع، طباعته وتوزيعه ولصقه على الجدران ليكون على تماسّ مباشر بالناس.

تفترض مسألة الطباعة من الفنّان الوعي بالإمكانيّات التقنيّة الطباعيّة، فتطوّر الطباعة يلعب دورًا بارزًا في تطوّر الملصق، وإيصاله إلى الناس بمضامينه وجماليّاته؛ فالطباعة الرديئة تحدّ من فاعليّة الملصق الجماليّة وخصوصيّة الإثارة البصريّة والشكليّة واللونيّة، الإثارة الّتي تشكّل عاملًا هامًّا من عوامل جلب اهتمام المتلقّي ودفعه إلى تأمّل الملصق. هكذا تسيء الطباعة الرديئة إلى الملصق وتشوّه الذوق الجماليّ العامّ، فكثيرًا ما تستخدم المطبعة ألوانًا غير الألوان الّتي استخدمها الفنّان في ملصقه.

 

دور الملصق النضاليّ 

لعب الملصق دورًا نضاليًّا في حياة الشعوب، فكان وما زال من أكثر الوسائل البصريّة إثارة وتحريضًا، فساهم في التعبير عن قضايا الشعوب المناضلة، وفي الكشف عن الممارسات النازيّة والصهيونيّة والإمبرياليّة الأمريكيّة، وتطوّر في كثير من بلدان العالم – فييتنام، كوبا، بولونيا- مستمدًّا أصالته من جماليّات تلك البلدان، همومها، مشاكلها، قضاياها. كما انفتح عبر الرؤية الإنسانيّة التقدّميّة على مشكلات الشعوب المناضلة، فاستخدمه الفنّانون الطليعيّون في مختلف أنحاء العالم للتعبير عن الثورة الفييتناميّة ثمّ الثورة الفلسطينيّة، وأصبح سلاحًا من الأسلحة الثقافيّة الهامّة في التعبير عن قضايا الشعوب المكافحة، وفي مواجهة القوى الإمبرياليّة وتعريتها وإدانتها.

وعلى صعيد قضيّتنا القوميّة، أعطى الملصق المحلّيّ والعربيّ والعالميّ أهمّيّة خاصّة للقضيّة الفلسطينيّة؛ فظهرت مئات الملصقات الّتي تعالج بالتعبير الفنّيّ مختلف الموضوعات الفلسطينيّة، من أيّام النكبة إلى زمن الثورة، وأقيمت المعارض الفرديّة والجماعيّة العربيّة والعالميّة الخاصّة بالقضيّة الفلسطينيّة. معظم المعارض أقيمت بعد انطلاقة الثورة الفلسطينيّة المسلحّة في العام 1967، فقد كان ملصق القضيّة قبل الثورة محدودًا، ولم يبرز على نطاق واسع وشكل متميّز متطوّر إلّا بعد الثورة، وبعد التطوّر في القضيّة والتقدّم الّذي حقّقته الثورة على مختلف الصعد الإعلاميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والعسكريّة.

هكذا نجد أنّ ملصق القضيّة الفلسطينيّة قد ظهر مع الثورة وتطوّر مواكبًا تطوّرها، وقد ساهمت المؤسّسات الثقافيّة الفلسطينيّة والعربيّة مساهمة فعّالة في تطوّر الملصق المعارض، وأعطت الملصق أهمّيّة خاصّة وعملت على طباعة عشرات الملصقات وتوزيعها في مختلف أنحاء العالم، ومع تطوّر الملصق والوعي بأهمّيّته وضرورته، تحوّل بعض فنّانينا من المصوّرين إلى صناعة الملصق، وطُبِعَت بعض اللوحات كملصقات واسْتُخْدِمَ مختلف التقنيّات لخدمة الملصق، فلم تعد تقنيّة الملصق رسمًا ولونًا، فثمّة تجارب أفادت من التصوير الضوئيّ وأخرى من الكاريكاتير، وأخرى جمعت بين الصور الضوئيّة والرسم والتلوين بإخراج جديد.

 

الملصق العربيّ... من الانفعال إلى العقلانيّة

تمحور الملصق العربيّ المرتبط بالقضيّة الفلسطينيّة في الخمسينات من هذا القرن، حول موضوعات النكبة والتشرّد، واستمدّ مادّته من ’الأرشيف‘، صور المخيّمات وحياة البؤس والحرمان والغربة، وتحقّق كإنجاز فنّيّ بلغة تعبيريّة انفعاليّة، وبتقنيّة لوحة التصوير، واعتمد في كثير من الحالات على العبارات الأدبيّة الّتي تعكس في معناها محتوى الملصق وموضوعه.

كان الملصق الانفعاليّ يعني أساسًا مخاطبة انفعالات وعواطف الناس على صعيد محلّيّ، واستمرّت هذه الصيغ الانفعاليّة والمضامين المأساويّة حتّى منتصف الستّينات، ووصلت إلى أقصى مداها إثر نكسة عام 1967، النكسة الّتي دفعت إلى تنامي الانفعالات والمضامين المأساويّة الّتي وصلت حدود الفاجعة، ولوّنت بألوانها السوداء مختلف أجناس التعبير الفنّيّ.

مع تطوّر الثورة الفلسطينيّة، وما حقّقته من انتصارات على الصعيد العسكريّ والسياسيّ، وجد الفنّان أنّه أمام واقع جديد، ولا بدّ من الإحاطة بمختلف جوانب القضيّة، ومخاطبة الناس في أيّ مكان من هذا العالم. فالمعركة قوميّة، والأطماع الصهيونيّة في وطننا العربيّ لا حدود لها، وتتجاوز الأرض الفلسطينيّة. كما ثمّة قوى استعماريّة إمبرياليّة تدعم الكيان الصهيونيّ وتمدّه بالمال والسلاح، وتساعده على تحقيق أطماعه وأهدافه التوسّعيّة. وقد عَمِلَ هذا الكيان عبر مؤسّساته وارتباطه العضويّ بالقوى الإمبرياليّة في العالم، وبمؤسّساتها، على تشويه الحقائق، وتصوير العربيّ كمُعْتَدٍ لا كمُعْتَدى عليه. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ البدايات الأولى للملصق العربيّ قد نمت على يد المصوّرين والنحّاتين العرب، لكن مع تطوّر الحركة الفنّيّة وتخصّص البعض في الملصق، ودخول هذه التقنية إلى معاهدنا وكلّيّاتنا الفنّيّة، أخذ الملصق في التطوّر، وعلى يد أساتذة وصلوا بهذا الجنس الفنّيّ إلى مكانة عالية عبر إنجازات متطوّرة لا تقلّ إبداعًا وخصوصيّة عن نتاج مشاهير فنّاني الملصق في العالم. هنا نذكر وبشكل خاصّ تجربة الفنّان عبد القادر أرناؤوط، الّذي فتح الباب على مصراعيه على طريق ملصق سياسيّ متطوّر بتقنيّته ويستطيع أن يخاطب الناس في أيّ مكان من هذا العالم بلغة الخطّ واللون والرمز. وحين نتحدّث عن تجربة هذا الفنّان في الملصق، فإنّنا نذكر تجربة رائدة في إبداعاتها وتقنيّتها ومضامينها. وقد تكشّفت أهمّيّة تجربته ليس في جانبها التقنيّ المتطوّر فحسب، بل في التزامها بالتعبير عن قضايانا القوميّة المعاصرة، وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينيّة.

ففي النصف الثاني من الستّينات ومطلع السبعينات، أي في مرحلة ولادة ونموّ الثورة الفلسطينيّة، وتصاعد الهجمة الصهيونيّة والإمبرياليّة على الشعب العربيّ، اتّجه عبد القادر إلى الملصق السياسيّ، وأنجز مجموعة من الأعمال الّتي طُبِعَتْ كملصقات وبطاقات بريديّة. والحديث عن هذه الملصقات يفترض الكشف عن الوعي المتطوّر لماهيّة الملصق وفاعليّته الّذي يتمتّع به الفنّان.

في تلك المرحلة ظهرت ملصقات عربيّة متطوّرة لمصوّرين ونحّاتين متميّزين أمثال نذير نبعة، عبد الرحمن المزيّن، مصطفى الحلّاج، صالج الجميعي، منى السعودي، محمّد شبعة، جمانة الحسيني، مالك المالكي، توفيق عبد العال، شفيق رضوان، وغيرهم. الشيء الهامّ في هذه التجارب يكمن في رصدها وتسجيلها وتعبيرها عن مختلف الأحداث والأفكار والقضايا المرتبطة بالقضيّة الفلسطينيّة، وبمشروعيّة الثورة وحقّ الشعب العربيّ الفلسطينيّ في العودة وارتباطه بالأرض وبالجذور الحضاريّة التاريخيّة الّتي صنعها الأجداد على أرض فلسطين.

ثمّة ملصقات كُرِّسَت للتعبير عن الثورة والبطولات الّتي صنعها المقاتلون والتضحيات الّتي قدّموها، مرورًا بالشهداء الأبرار الّذين جسّدوا أروع ملاحم البذل والعطاء والفداء، وقد اسْتُخْدِمَت في هذه الملصقات مختلف الرموز الفلسطينيّة القديمة، وبرزت بشكل خاصّ ’الكوفيّة الفلسطينيّة‘ للدلالة ليس على هويّة المقاتل، فالثورة ضمّت في صفوفها مقاتلين عربًا وأجانب، بل على أصالة الثورة. في ما كشفت ملصقات أخرى عن المجازر الّتي ارتكبها الكيان الإسرائيليّ النازيّ ومنها مجزرة كفر قاسم، وملصق دير ياسين، وملصق خان يونس، وغيرها من الملصقات الّتي تكشف للناس المذابح الجماعيّة الّتي ارتكبها الصهاينة بحقّ الشعب الفلسطينيّ. كما ثمّة ملصقات جسّدت البطولات الّتي قامت بها المجموعات المقاتلة، ومع تنامي ثورة الفلسطينيّين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، ظهرت عشرات الملصقات عن يوم الأرض والانتفاضة الشعبيّة وعن المعتلقين في سجون العدوّ.

 

الملصق بوصفه أداة تثقيفيّة 

جُمِعَتْ هذه الملصقات الّتي تشكّل في محتواها تاريخًا للقضيّة الفلسطينيّة في معرض كبير أُقيمَ في عدّة عواصم عربيّة، بمشاركة الفنّانين العرب وبتنظيم من قسم الفنون التشكيليّة في «منظمة التحرير الفلسطينيّة». اعْتُبِرَ هذا المعرض من أهمّ المعارض الّتي أحاطت بالقضيّة الفلسطينيّة في كلّ مراحلها، وكل ما مرّ على هذه القضيّة منذ البداية حتّى اليوم، كأنّه يستعرضها ويؤرّخ لأحداثها عبر لغة الملصق الجداريّ، فلا تغيب عن المشاهد حادثة، ولا يفوته مأزق أو انتصار. وإذا استطاع معرض أن يؤرّخ لنا هذه الأحداث، وهذه التواريخ المتسلسلة، ويقدّمها لنا، فذلك يعني أنّه قام بالمهمّة الّتي أُلْقِيَت عليه، وأدّى الدور الّذي أُنيط به، وهكذا نكتشف بوضوح كامل، وكافٍ، مدى تفاعل الملصق مع القضيّة، ومدى تلازم التعبير عنها عن طريقه والأدوار المختلفة الّتي يلعبها في التوجيه والتحريض، والمساهمة في تثقيف المواطن حين يقدّم له الثقافة الضروريّة، لأنّه لا ينقل – الفنّ والتوجيه – وحدهما، بل ينقل المعلومات الثقافيّة والفكريّة ويذكّر بها، ويرسّخها ويدعم المعرفة الأساسيّة عند المواطن بالقضيّة وبالأحداث، وهكذا يدعم الملصق التوجيه بالتثقيف السياسيّ والفكريّ والفنّيّ.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة- ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.